بـيـكـاسـو والـثّـور الـسّـومـري

لا شـكّ في أنّـكـم رأيـتـم يـا أعـزّائي صـوراً لـ"مـنـحـوتـة" رأس الـثّـور، أو بـالأحـرى "تـركـيـبـتـه" الّـتي قـام بـهـا بـيـكـاسـو عـام 1942 بـتـثـبـيـت مـقـود حـديـدي لـدرّاجـة هـوائـيـة بـمـقـعـدهـا الـجـلـدي. وربّـمـا رآه بـعـضـكـم في مـتـحـف بـيـكـاسـو في بـاريـس.

 


 

وأعـتـقـد أنّـكـم رأيـتـم أيـضـاً صـوراً لـمـنـحـوتـة رأس الـثّـور الـسّـومـري الـمـعـروض في مـتـحـف الـلـوفـر في بـاريـس. وربّـمـا لاحـظـه بـعـضـكـم عـنـد زيـارتـهـم لـقـسـم الآثـار الـشّـرقـيـة في هـذا الـمـتـحـف. وهي مـنـحـوتـة صـغـيـرة (19×7،16 سـم.) مـن الـنّـحـاس طـعّـمـت فـيـهـا عـيـنـا الـثّـور بـالـصّـدف الأبـيـض والـلازورد. ويُـعـتـقـد أنّـهـا كـانـت تـزيّـن قـيـثـارة اهـتـرأت أخـشـابـهـا وتـلاشـت. ويـعـود تـاريـخـهـا إلى فـتـرة ثـالـث الـسّـلالات الـسّـومـريـة الـقـديـمـة، أي مـنـتـصـف الألـف الـثـالـث قـبـل الـمـيـلاد (مـن حـوالي 2600 إلى حـوالي 2340 ق.م.). 


 وقـد عـثـر عـلى هـذه الـمـنـحـوتـة الـرّائـعـة الـجـمـال الـفـرنـسي إرنـسـت دو سَـرزيـك خـلال تـنـقـيـبـاتـه في تـلّـو (مـوقـع مـديـنـة غـيـرسـو الـقـديـمـة، عـاصـمـة دويـلـة لـغـش) في بـلاد سـومـر، وأهـداهـا لـمـتـحـف الـلـوفـر عـام 1896.

 وقـد تـوقّـفـت، أنـا شـخـصـيـاً، أمـام هـذه الـمـنـحـوتـة مـرّات لا تـعـدّ ولا تـحـصى، في كـلّ مـرّة دخـلـت فـيـهـا مـتـحـف الـلـوفـر، ومـنـذ عـقـود طـويـلـة. وقـد رسـمـتـهـا بـقـلـم الـرّصـاص وبـالـحـبـر الـصّـيـني مـواجـهـة وجـانـبـيـاً ومـن ثـلـثـيـن ومـن ثـلاثـة أربـاع ... أي في كـلّ الأوضـاع الّـتي اسـتـطـعـت رؤيـتـهـا فـيـهـا.

ومـع ذلـك لـم يـخـطـر عـلى بـالي أبـداً أن أقـارنـهـا بـتـركـيـبـة بـيـكـاسـو لـثـوره الـمـجـمّـع الأجـزاء. فـقـد كـان ثـور بـيـكـاسـو عـنـدي يـنـتـمي إلى الـمـخـيـلـة الإسـبـانـيـة بـأجـواء مـصـارعـة ثـيـرانـهـا. خـاصّـة وأنّ بـيـكـاسـو كـان شـديـد الإعـجـاب بـثـيـران سـابـقـه الـفـنّـان الإسـبـاني الـكـبـيـر غـويـا الّـتي رسـمـهـا عـن حـلـبـات الـمـصـارعـة. ثـمّ أنّـه نـتـج عـن جـرأة بـيـكـاسـو وجـسـارتـه وشـغـفـه بـالـمـغـامـرات الـفـنّـيـة الـشّـديـدة الـحـداثـة، بـيـنـمـا أنـتـج الـنّـحـات الـسّـومـري ثـوراً وديـعـاً طـالـمـا تـبـادلـت مـعـه نـظـرات مـودّة كـمـا لـو كـان حـيـوانـاً ألـيـفـاً يـتـذكّـرني عـنـدمـا أمـرّ عـلـيـه بـيـن الـحـيـن والـحـيـن، ويـمـكـنـني أن أمـسـح عـلى رأسـه فـيـهـرهـر ... 

ومـا أشـدّ مـا كـانـت دهـشـتي عـنـدمـا رأيـتـهـمـا جـنـبـاً إلى جـنـب !  وعـنـدهـا أدركـت أنّ فـنّـانـاً أصـيـلاً يـمـكـنـه أن يـفـهـم لـغـة فـنّـان أصـيـل آخـر ولـو ابـتـعـدا في الـمـكـان والـزّمـان. ودهـشـت لأنّ نـظـرتي إلى ثـور بـيـكـاسـو تـغـيّـرت بـمـجـاورتـه لـثـور الـنّـحّـات الـسّـومـري. ونـمـت بـيـني وبـيـنـه هـو الآخـر روابـط ألـفـة. وتـبـادلـت مـعـه نـظـرات مـودّة ... ولـكـنّي وجـدت نـظـراتـه حـزيـنـة كـمـا لـو كـان يـقـاسي مـن آلام عـصـرنـا هـذا. ووجـدتـه ضـعـيـفـاً هـزيـلاً نـحـيـل الـوجـه، يـكـاد أن يـكـون مـريـضـاً إلى جـانـب الـثّـور الـسّـومـري الّـذي يـطـفـح صـحـة وعـافـيـة.


 

وأتـوقّـف هـنـا قـلـيـلاً لأذكـر لـكـم أنـني رأيـتـهـمـا جـنـبـاً إلى جـنـب في الـمـعـرض الّـذي يـقـيـمـه مـتـحـف الـلـوفـر في فـرعـه في مـديـنـة لـنـس Lens في شـمـال فـرنـسـا (1) عـن "لـوفـرات بـابـلـو بـيـكـاسـو  Les Louvres de Pablo Picasso" الّـذي افـتـتـح قـبـل أيّـام قـلـيـلـة، في 13 تـشـريـن الأوّل الـحـالي، وسـيـسـتـمـرّ حـتّى 31 كـانـون الـثّـاني 2022.

وكـلـمـة "لـوفـرات  Les Louvres " تـبـدو ولا شـكّ غـريـبـة لأوّل وهـلـة فـهي جـمـع لاسـم مـتـحـف "الـلـوفـر". ويـعـلـل ديـمـتـري سـالـمـون، مـنـظّـم الـمـعـرض والـمـسـؤول عـنـه، اخـتـيـاره لـلـجـمـع بـأنّ بـيـكـاسـو ارتـاد الـمـتـحـف مـنـذ أن وصـل إلى بـاريـس مـن إسـبـانـيـا عـام 1901، وأنّ الـمـتـحـف تـغـيّـر في تـنـظـيـمـه وفي بـعـض مـحـتـويـاتـه عـدّة مـرّات. فـكـأنّـمـا ارتـاد بـيـكـاسـو عـدّة مـتـاحـف.

وهـذا مـا أحـسـسـت بـه أنـا نـفـسي. فـقـد زرت مـتـحـف الـلـوفـر لأوّل مـرّة مـنـذ خـمـسـيـن عـامـاً، في صـيـف 1971 بـالـضـبـط. وكـنـت في الـحـاديـة والـعـشـريـن مـن عـمـري. وارتـدتـه بـعـد ذلـك بـانـتـظـام. وعـنـدمـا أسـتـعـرض ذكـريـاتي أجـد مـتـحـفـيـن مـخـتـلـفـيـن : كـان أولـهـمـا الـمـتـحـف "الأصـلي"، ثـمّ تـبـعـه "الـلـوفـر الـكـبـيـر" الّـذي افـتـتـح في أواخـر عـام 1993. 

 

الـثّـور الـسّـومـري يـواجـه ثـور بـيـكـاسـو :

وقـد ذكـر مـنـظّـم الـمـعـرض هـذا والـمـسـؤول عـنـه، في لـقـاء مـعـه نـشـر فـيـمـا نـشـر عـن الـمـعـرض، أنّـه يـأمـل في أن تـثـيـر الـمـواجـهـة الّـتي اخـتـارهـا بـيـن الـثّـور الـسّـومـري وبـيـن رأس ثـور بـيـكـاسـو اهـتـمـام الـزّوار وأن تـهـزّ أعـمـاقـهـم. وهـو لا يـخـفي أنّـه لـم يـجـد دلائـل قـاطـعـة عـلى تـأثـر بـيـكـاسـو بـالـثّـور الـسّـومـري مـبـاشـرة، ولـكـنّـه يـعـتـقـد بـوجـود عـلاقـة حـقـيـقـيـة بـيـنـهـمـا.

وكـدت أقـتـنـع أنـا نـفـسي بـهـذه الـعـلاقـة فـهي تـوافـق هـواي، وكـانـت إغـراءً يـصـعـب مـقـاومـتـه          لـ "مـتـعـصـب" لـلـفـنّ الـسّـومـري مـثـلي ! ولـكـنّ الأمـانـة الـعـلـمـيـة تـغـلـبـت عـلى هـواي، ودفـعـتـني لـلـبـحـث عـن مـصـادر أخـرى يـمـكـنـهـا أن تـرفـد مـخـيـلـة بـيـكـاسـو.

ووجـدت "ثـور كـوسـتـيـتـكـس  Toros de Costitx"، الّـذي عـثـر عـلـيـه في جـزيـرة مـايـوركـا، جـنـوب إسـبـانـيـا، والّـذي يـمـكـنـنـا أن نـراه في مـتـحـف الآثـار الـوطـنـيـة في مـدريـد. وقـد صـنـع هـذا الـثّـور مـن الـبـرونـز بـيـن الـقـرنـيـن الـخـامـس والـثّـالـث قـبـل الـمـيـلاد، أي بـعـد أكـثـر مـن ألـفي عـام عـلى ثـور الـلـوفـر الـسّـومـري.

 


ونـحـن نـعـرف أنّ بـابـلـو بـيـكـاسـو ولـد في مـلـقـا، في جـنـوب إسـبـانـيـا، ثـمّ انـتـقـل مـع والـديـه إلى بـرشـلـونـة. ولـم يـزر مـدريـد قـبـل أن يـبـلـغ الـرّابـعـة عـشـرة مـن عـمـره. ثـمّ عـاد إلى مـدريـد في سـنّ الـثّـامـنـة عـشـرة لـيـدرس الـفـنّ، ولـكـنّـه تـركـهـا بـسـرعـة عـائـداً إلى بـرشـلـونـة. ولـم يـبـق فـيـهـا زمـنـاً طـويـلاً، فـقـد تـركـهـا لـيـسـتـقـرّ في بـاريـس.

وقـد زار في مـدريـد مـتـحـف الـ "بـرادو" الـشّـهـيـر عـدّة مـرّات، ولـكـن لـيـس لـديـنـا مـا يـؤكّـد أنّـه زار مـتـحـف الآثـار الـوطـنـيـة فـيـهـا، وإن كـان ذلـك مـحـتـمـلاً. ولـيـس لـديـنـا مـا يـؤكّـد أنّـه تـأثّـر بـ "ثـور كـوسـتـيـتـكـس" إن كـان قـد رآه في مـتـحـف الآثـار الـوطـنـيـة في مـدريـد.

ولـكـنّ الـمـؤكـد هـو أنّـه ارتـاد مـتـحـف الـلـوفـر مـنـذ وصـولـه إلى فـرنـسـا وإلى أواخـر سـنـوات حـيـاتـه، وأنّـه تـوقّـف مـراراً أمـام بـعـض الـقـطـع الأثـريـة فـيـه. يـدلّ عـلى ذلـك مـثـلاً رسـمـه بـالـحـبـر الـصّـيـني لـوجـه صـبي وجـده في قـاعـة آثـار الـفـيّـوم. ووقـوفـه إذن أمـام الـثّـور الـسّـومـري شـديـد الإحـتـمـال، وإمـكـانـيـة تـأثـره بـه كـبـيـرة.  وهـو حـتـمـاً أكـثـر احـتـمـالاً مـن تـأثّـره بـ "ثـور كـوسـتـيـتـكـس".

ولا شـكّ في أنّ أهـمّ مـا في هـذه الـمـواجـهـة بـيـن الـثّـور الـسّـومـري وثـور بـيـكـاسـو في هـذا الـمـعـرض هـو الـحـوار الـمـدهـش بـيـنـهـمـا عـن الإمـكـانـيـات الـمـذهـلـة لـلـخـلـق الـفـنّي الّـتي تـنـبـع مـن رهـافـة حـسّ الـفـنّـان، والّـتي يـتـخـطى بـهـا حـدود الـزّمـان والـمـكـان لـيـعـيـد صـيـاغـة الـكـون في جـمـالـه الأوّل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  مـع أنّ مـتـاحـف زمـانـنـا هـذا مـا زالـت في جـوهـرهـا مـؤسـسـات ثـقـافـيـة فـقـد بـدأت تـنـمّي شـيـئـاً فـشـيـئـاً جـانـبـاً تـجـاريـاً، وتـفـتـح لـهـا فـروعـاً. وهـكـذا فـتـح مـتـحـف الـلـوفـر مـثـلاً فـروعـاً لـه في "أبـو ظـبي" أو في مـديـنـة "لـنـس".

(*) يـمـكـنـكـم أيـضـاً قـراء مـقـالي : "سـومـر والـفـنّ الـعـالـمي الـحـديـث"، الـمـنـشـور في مـدونـة "الـمِـلْـوَنـة" :

https://almilwana.blogspot.com/2018/09/normal-0-21-false-false-false-fr-x-none.html?m=1

ومـقـالي : "بـيـيـر سـولاج والـفـنّ الـسّـومـري"، الـمـنـشـور في مـدونـة "الـمِـلْـوَنـة" :

https://almilwana.blogspot.com/2019/12/1-henry-moore-joan-miro-alberto.html?m=0

 

 

 

 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

إسـتـثـمـار عـرق الـسّـوس في الـعـراق في نـهـايـة الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر وبـدايـة الـقـرن الـعـشـريـن

مـهـنـد الـنّـاصـري في حـدائـق كـلـود مـونـيـه