سـيـرة الـمـاء والـنّـار

 



 

عـنـدمـا نـفـتـح كـتـاب مي مـظـفّـر الأخـيـر "أنـا ورافـع الـنّـاصـري : سـيـرة الـمـاء والـنّـار" الـشّـديـد الأنـاقـة بـغـلافـه الـرّائـع الـجـمـال، والّـذي تـتـكـلّـم فـيـه عـن حـيـاتـهـمـا، نـتـسـاءل عـن مـن مـنـهـمـا الـمـاء ومـن مـنـهـمـا الـنّـار. خـاصّـة وأنـنـا نـرى عـلى غـلاف الـكـتـاب صـورتـيـهـمـا، الـواحـدة مـقـابـل الأخـرى فـنـربـط ذهـنـيـاً بـيـنـهـمـا وبـيـن كـلـمـتَي الـمـاء والـنّـار.

وربّـمـا قـصـدت بـسـيـرة الـمـاء والـنّـار مـسـيـرتـهـمـا الـطّـويـلـة مـعـاً، والّـتي تـجـاوزت نـصـف قـرن، ذاقـا خـلالـهـا عـذوبـة الـصّـداقـة والـمـحـبّـة وتـقـاسـمـا شـغـفـهـمـا بـالأدب والـفـنّ، وتـحـمّـلا آلام الـحـروب والـقـصـف ثـمّ الـغـربـة وفـقـدان الأحـبّـة.

والـكـتـاب تـحـقـيـق لـمـشـروع "طـالـمـا وضـعـتـه الـكـاتـبـة والـشّـاعـرة ونـاقـدة الـفـنّ مي مـظـفّـر نـصـب عـيـنـيـهـا لـتـوثـيـق مـسـيـرة حـيـاتـهـمـا"، واعـتـمـدت فـيـه عـلى ذاكـرتـهـا وعـلى يـومـيـاتـهـا وعـلى كـلّ مـا كـان قـد احـتـفـظ بـه زوجـهـا الـفـنّـان رافـع الـنّـاصـري مـن شـواهـد عـلى مـسـيـرتـه الـفـنّـيـة. و"اسـتـغـرق اسـتـكـمـال فـصـول هـذه الـسّـيـرة قـرابـة سـتّ سـنـوات 2014  ــ 2020" .

ونـتـابـعـهـا وهي تـروي لـنـا حـيـاتـهـا مـنـذ طـفـولـتـهـا ثـمّ دراسـتـهـا وبـدء حـيـاتـهـا الـعـمـلـيـة، ثـمّ لـقـاءهـا بـرافـع الـنّـاصـري وقـصّـة حـبّـهـمـا وزواجـهـمـا ونـشـاطـاتـهـمـا الأدبـيـة والـفـنّـيـة في بـغـداد الـثّـريـة بـالـعـواطـف والإبـداعـات، ثـمّ مـجئ الـحـروب والـقـصـف والـتّـدمـيـر، والـتّـشـتـت وسـنـوات الـغـربـة الـطّـويـلـة في عـمّـان فـالـبـحـريـن فـعـمّـان. ورغـم ذلـك فـقـد كـانـت حـيـاتـهـمـا بـأفـراحـهـا وأتـراحـهـا شـديـدة الـثّـراء بـإنـتـاجـاتـهـمـا الأدبـيـة والـفّـنـيـة الـبـالـغـة الـرّوعـة.

وبـدلاً مـن سـرد مـسـتـمـرّ يـتـبـع الـتّـسـلـسـل الـزّمـني لـلأحـداث، فـقـد اخـتـارت مي مـظـفّـر عـدّة مـسـالـك نـتـابـعـهـا فـيـهـا، يـمـكـن لـلـواحـد مـنـهـا أن يـسـتـغـرق عـدّة فـصـول : (الـبـدايـة ــ مـرحـلـة الـكـرّ والـفـرّ ــ الـكـوخ / مي / الـسّـنـوات الـعـشـر الأولى/ رحـلاتـنـا ــ رحـلاتـنـا الـلاحـقـة / أنّـهـا لـحـرب قـذرة ــ الـخـروج مـن بـغـداد ــ الـسّـنـوات الـعـشـر الأخـيـرة والـعـودة إلى عـمّـان ــ مـرحـلـة الـمـرض). وعـنـدمـا تـنـتـهي مـن واحـد مـنـهـا نـعـود مـعـهـا أحـيـانـاً إلى سـنـوات أقـدم لـنـنـطـلـق مـن جـديـد في مـتـابـعـة أحـداث أخـرى. وهـو مـا يـسـاعـدنـا عـلى مـراجـعـة بـعـضـهـا عـنـدمـا تـتـكـرر هـنـا وهـنـاك.

وتـبـدأ الـكـاتـبـة سـردهـا بـلـقـائـهـا بـرافـع الـنّـاصـري في خـريـف عـام 1971 في : "واحـدة مـن أمـسـيـات جـمـعـيـة الـفـنّـانـيـن الّـتي دأبـنـا عـلى حـضـورهـا. كـانـت الـجـمـعـيـة قـد غـدت مـلـتـقى يـجـتـمـع فـيـه الأدبـاء والـفـنّـانـون والـمـعـمـاريـون والـمـوسـيـقـيـون [...]. كـنـت بـأمـسّ الـحـاجـة إلى الإنـتـمـاء إلى حـلـقـات ثـقـافـيـة، وارتـحـت لـهـذه الـمـجـمـوعـة بـعـد أن لـمـسـت مـن أعـضـائـهـا سـلـوكـاً اجـتـمـاعـيـاً مـتـحـضّـراً ومـريـحـاً يـتـيـح لي الـتّـحـرك مـعـهـم وبـيـنـهـم بـراحـة".

و"في ذلـك الـمـسـاء ضـمّـتـنـا حـلـقـة واسـعـة. لاحـظـت رافـع يـتـطـلّـع إليّ مـن بـعـيـد قـبـل أن يـغـيـر مـكـانـه لـيـجـلـس إلى جـانـبي". وكـانـت تـلـك بـدايـة قـصّـة حـبّ دامـت أكـثـر مـن اثـنـتـيـن وأربـعـيـن سـنـة.

ويـنـغـمـس الـقـارئ في سـرد الـكـاتـبـة، ويـشـهـد زواجـهـا بـرافـع الـنّـاصـري، ويـصـاحـبـهـمـا في انـتـقـالـهـمـا إلى دار والـديـه، في غـرفـة تـطـلّ عـلى الـحـديـقـة، فـتـحـاهـا ووسـعـاهـا لـتـصـبـح سـكـنـاً لـهـمـا أقـامـا فـيـه اثـنـتي عـشـرة سـنـة قـبـل أن يـكـتـمـل تـشـيـيـد دارهـمـا في مـنـطـقـة الـخـضـراء.

ويـتـمـلـكـه الأسـف وهـو يـتـرك مـعـهـمـا دارهـمـا والـمـرسـم الّـذي أكـمـل فـيـه رافـع كـثـيـراً مـن أعـمـالـه الـرّائـعـة لـيـذهـبـا إلى حـيـث قـادتـهـمـا الأقـدار. ويـتـمـلـكـه الأسـف وهـو يـتـرك مـعـهـمـا أيـضـاً "الـمـحـتـرف" الّـذي أسـسـاه لـفـنّ الـغـرافـيـك في الـمـنـصـور. ويـتـمـلـكـه الأسى لـمـا حـدث لـبـغـداد في غـيـابـهـمـا ولـدارهـمـا تـنـهـب ولأعـمـالـهـمـا تـتـشـتـت ...

ويـشـتـدّ أسى الـقـارئ وهـو يـتـابـع مـراحـل تـدمـيـر بـلـد الـخـيـر والـمـصـائـب الّـتي حـلّـت بـنـاسـه الـطّـيـبـيـن ... مـنـذ سـنـوات الـحـرب الـعـراقـيـة الإيـرانـيـة الّـتي تـجـعـلـه الـكـاتـبـة يـعـيـشـهـا مـعـهـمـا ومـع مـن حـولـهـمـا، وإلى قـصـف بـغـداد خـلال حـرب الـخـلـيـج، وبـدايـة الـحـصـار ... ولا شـكّ في أنّـهـا مـن أفـضـل مـا قـرأت مـن صـفـحـات عـن تـلـك الـسّـنـوات إطـلاقـاً. وهي تـسـتـحـق أن تـقـرأ وأن تـعـاد قـراءتـهـا، وأن تـتـرجـم إلى أهـمّ الـلـغـات الـعـالـمـيـة. وأنـا واثـق بـأنّـهـا سـتـتـرجـم حـتـمـاً في يـوم مـا.

ويـنـبـهـر الـقـارئ بـكـلّ مـا قـامـا بـه رغـم كـلّ هـذا : مـشـروع مي الأدبي الّـذي لـم تـحـد عـنـه مـنـذ صـغـرهـا وتـوصـلـت إلى تـحـقـيـقـه بـجـهـود مـسـتـمـرّة وبـقـوة شـخـصـيـتـهـا، وتـنـمـيـة رافـع لـمـواهـبـه الـفـنّـيـة مـنـذ صـبـاه في الـمـدرسـة الـمـتـوسّـطـة وفي مـعـهـد الـفـنّـون الـجـمـيـلـة، ثـم في أكـاديـمـيـة بـكـيـن الـمـركـزيـة لـلـفـنـون فـغـرافـورا لـشـبـونـة، وفي دورات الـغـرافـيـك في سـالـزبـورغ. وسـعـيـه الّـذي لـم يـفـتـر أبـداً لـخـلـق أشـكـال دائـمـة الـتّـنـوّع والـتّـجـدد لـتـعـبـيـره الـفـنّي، والّـذي اسـتـمـرّ حـتّى وفـاتـه في أواخـر عـام 2013.

ويـتـابـع الـقـارئ نـشـاطـاتـهـمـا الأدبـيـة والـفـنّـيـة ومـشـاركـتـهـمـا في مـعـارض فـنّـيـة ونـدوات ومـواسـم ثـقـافـيـة في الـعـراق والـبـلـدان الـعـربـيـة وفي أنـحـاء الـعـالـم، ويـنـطـلـق مـعـهـمـا في رحـلات عـبـر بـلـدان الـشّـرق والـغـرب، ويـدخـل مـعـهـمـا في أهـمّ مـتـاحـف الـفـنّ وفي صـالات الـمـوسـيـقى وقـاعـات الأوبـرا.

ويـتـفـحـصّ الـصّـور الـفـوتـوغـرافـيـة الّـتي وضـعـتـهـا الـكـاتـبـة في آخـر كـتـابـهـا، بـالأبـيـض والأسـود وبـالألـوان، ويـتـعـرّف فـيـهـا عـلى كـلّ هـؤلاء الأدبـاء الّـذيـن يـنـتـمـون عـنـده إلى عـالـم الأسـاطـيـر : نـزار قـبـاني، مـحـمـود درويـش، أدونـيـس ... وعـشـرات مـن الآخـريـن الّـذيـن كـانـت تـربـطـهـمـا بـهـم أواصـر صـداقـة، وكـانـت أواصـر صـداقـة تـربـطـهـمـا أيـضـاً بـمـا لا يـحـصى ولا يـعـدّ مـن كـبـار الـفـنّـانـيـن ...

وكـتـاب مي مـظـفّـر بـاخـتـصـار قـصّـة الـعـراق الـحـديـث مـنـذ مـنـتـصـف الـقـرن الـمـاضي وإلى أيّـامـنـا هـذه بـكـلّ عـذوبـتـهـا ومـرارتـهـا. والـرّائـع فـيـه، إلى جـانـب سـلاسـة أسـلـوب أديـبـتـنـا الـكـبـيـرة ووقـع سـردهـا الـهـادئ الـطّـبـيـعي الـتّـلـقـائي، هـو أنّ الـمـرح امـتـزج فـيـه بـأسى مـصـاعـب الـحـيـاة وبـقـسـاوتـهـا، وبـشـراسـة الـحـرب. وهـو قـبـل كـلّ شئ مـن روائـع أعـمـال مي مـظـفّـر الأدبـيـة.

ويـتـرك الـقـارئ الـكـتـاب مـفـتـوحـاً عـنـدمـا يـنـتـهي مـن قـراءتـه، ويـغـمـض عـيـنـيـه مـحـاولاً أن يـبـقي في داخـلـه الإحـسـاس الـعـمـيـق الّـذي مـلأه بـالـسـكـيـنـة بـعـد أن صـاحـب رافـع في انـطـلاقـه نـحـو الأبـديـة، ودخـل في أحـلام مي الّـتي تـفـضي إلى عـالـم لا مـتـنـاهي ... وربّـمـا يـفـتـح عـيـنـيـه ويـدخـل مـرّة أخـرى في فـصـل مـن فـصـولـه لـيـجـدد رحـلـتـه مـعـهـمـا ...

ــــــــــــــــــــــــــــ

(*) يـحـتـوي كـتـاب مي مـظـفّـر : "أنـا ورافـع الـنّـاصـري : سـيـرة الـمـاء والـنّـار" عـلى 298 صـفـحـة مـن الـنّـصـوص والـصّـور الـفـوتـوغـرافـيـة + 20 صـفـحـة مـن الـصّـور الـفـوتـوغـرافـيـة، عـشـر صـفـحـات مـنـهـا بـالألــوان.

وقـد صـدر الـكـتـاب عـن الـمـؤسـسـة الـعـربـيـة لـلـدّراسـات والـنّـشـر 2021.

 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

إسـتـثـمـار عـرق الـسّـوس في الـعـراق في نـهـايـة الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر وبـدايـة الـقـرن الـعـشـريـن

مـهـنـد الـنّـاصـري في حـدائـق كـلـود مـونـيـه