مـن "الـحـريـم" إلى "آنـسـات أفـنـيـون"

بـيـنـمـا كـان الـمـحـامي الأمـريـكي  John Quinn يـتـحـدّث مـع بـابـلـو بـيـكـاسـو Pablo Picasso في مـرسـمـه الـبـاريـسي عـام 1923، جـذبـت نـظـره لـوحـة زيـتـيـة واسـعـة الـمـقـايـيـس (154،3×110 سـم.) مـتّـكـئـة عـلى الـجـدار وأمـامـهـا لـوحـات أصـغـر مـنـهـا. وطـلـب مـن الـفـنّـان أن يـريـه إيّـاهـا.

وبـدأ بـيـكـاسـو يـزيـح الـلـوحـات الأخـرى مـن أمـامـهـا وهـو يـحـدثـه عـن هـذه الـلـوحـة الّـتي كـان قـد أسـمـاهـا "الـحـريـم  Le harem". وكـانـت لـوحـة "قـديـمـة" رسـمـهـا في الـخـامـسـة والـعـشـريـن مـن عـمـره، في صـيـف 1906، عـنـدمـا قـضى عـدّة أسـابـيـع في إحـدى قـرى الـجـانـب الإسـبـاني مـن جـبـال الـبـيـريـنـيـه.  ودهـش الـمـحـامي الأمـريـكي، الّـذي كـان مـن هـواة الـفـنّ الـحـديـث، مـن مـوضـوعـهـا ومـن طـريـقـة تـنـفـيـذهـا، وقـرر أن يـشـتـريـهـا.

وبـعـد أن عـاد بـهـا الـولايـات الـمـتّـحـدة الأمـريـكـيـة، عـرضـهـا لأوّل مـرّة عـام 1928، قـبـل أن تـدخـل في مـقـتـنـيـات مـتـحـف كـلـيـفـلانـد The Cleveland Museum of Art.

 

الـحـريـم :

 


 كـان بـيـكـاسـو قـد أعـدّ رسـم لـوحـة الـحـريـم بـرسـم بـالـحـبـر الـصّـيـني عـلى ورق نـفّـذه في الـعـام الـسّـابـق، 1905 :

 


ولـوحـة "الـحـريـم" عـمـوديـة الـتّـكـويـن، فـيـهـا سـتّـة أشـخـاص في زاويـة مـن غـرفـة فـارغـة، طـلـيـت أرضـيـتـهـا وجـدرانـهـا بـألـوان تـتـراوح بـيـن الـبـنّي الـمـتـورّد الـمـشـبـع بـالإضـاءة في بـعـض الأمـاكـن وبـيـن الـبـنّي الـقـاتـم مـع قـلـيـل مـن الأزرق والـرّصـاصي. وتـطـغي عـلى الـلـوحـة تـدرّجـات مـن الألـوان الـحـارّة تـخـتـلـف تـمـامـاً عـن ألـوان بـيـكـاسـو الـبـاردة في مـرحـلـتـه الـزّرقـاء، كـمـا تـخـتـلـف عـن ألـوانـه الـحـارّة في مـرحـلـتـه الـورديّـة، الّـتي نـلاحـظ هـنـا بـوضـوح أنّـه تـركـهـا.

ونـرى في مـقـدمـة الـلـوحـة رجـلاً جـالـسـاً مـنـفـرج الـسّـاقـيـن، طـوى سـاقـه الـيـسـرى تـحـت فـخـذه الأيـمـن، ويـتّـكئ بـظـهـره عـلى الـجـدار. ويـشـدّ بـيـده الـيـسـرى عـلى عـنـق قـنـيـنـة نـبـيـذ مـن نـوع مـا يـسـمي في بـلاد كـاتـلـونـيـا (الّـتي تـقـع بـيـن فـرنـسـا وإسـبـانـيـا) بـالـ  pu’rro. وبـجـانـبـه عـلى الأرض، فـوق خـرقـة بـيـضـاء، أو ربّـمـا قـطـعـة مـن الـورق، خـبـز وسـجـقـة نـقـانـقـيـة وثـلاث فـواكـه (أم هـل هي بـطـاطـس؟) :


 ووجّـه الـفـنّـان رأس الـرّجـل نـحـو أربـع نـسـاء عـاريـات تـغـتـسـل واحـدة مـنـهـنّ في إنـاء بـجـانـبـه مـنـشـفـة بـيـضـاء عـلى الأرض، مـمـا يـبـرر وجـود جـرّة الـمـاء عـلى الـيـسـار، وتـمـشـطّ الـثّـانـيـة شـعـرهـا، وتـتـمـطى الـثّـالـثـة رافـعـة ذراعـيـهـا كـمـا لـو كـانـت تـرقـص، بـيـنـمـا تـمـسـح الـرّابـعـة فـمـهـا كـمـا لـو كـانـت تـصـبـغـه بـالـحـمـرة. وتـجـلـس في الـزّاويـة امـرأة عـجـوز يـمـكـن أن تـكـون الـمـشـرفـة عـلى الـحـريـم في تـصـور الأوربـيـيـن الـشّـبـقي لـلـشّـرق، أو الـمـسـؤولـة عـن الـعـاهـرات في الـمـواخـيـر الأوربـيـة :


ولا يـبـدو عـلى الـرّجـل الـعـاري أنّـه يـنـظـر إلى نـسـائـه الأربـع، فـهـو مـغـمّـض الـعـيـنـيـن في حـالـة مـن الـخـدر الّـذي يـقـتـرب مـن الـسّـبـات، لا تـثـيـر فـيـه إنـاثـه أدنى شـهـوة جـنـسـيـة.

ونـلاحـظ أن إنـارة الـلـوحـة جـاءت مـن أعـلى يـمـيـنـهـا، ولـكـنّ الـنّـسـاء لا يـلـقـيـن بـظـلال عـلى الأرضـيـة ولا نـجـد إلّا الـقـلـيـل مـن الـتّـظـلـيـل في أجـزاء أجـسـادهـن، بـيـنـمـا يـلـقي رأس الـرّجـل وجـسـده بـظـلال كـثـيـفـة عـلى الـجـدار والأرضـيـة، كـمـا ظـلـل الـفـنّـان أجـزاءً مـن جـسـده لـيـؤكّـد عـلى عـضـلاتـه الـمـنـتـفـخـة.

كـمـا نـلاحـظ أنّ بـيـكـاسـو خـطـط الأجـسـاد وحـدود الأرضـيـة والـجـدار والـجـرّة والإنـاء بـفـرشـاة كـمـا لـو كـان يـرسـم عـلى ورقـة، ثـمّ فـرش الألـوان، مـخـلـوطـة أو صـافـيـة، وفـركـهـا عـلى الـقـمـاش. ولـولا أنّـه وقّـعـهـا Picasso في أعـلى يـمـيـن الـلـوحـة، لـتـصـوّرنـا أنّـهـا لـم تـكـتـمـل، أو أنّـهـا تـخـطـيـط تـحـضـيـري لـلـوحـة قـادمـة.

وقـد كـوّن بـيـكـاسـو الـلـوحـة حـول خـطّ رئـيـسي يـصـعـد مـن أسـفـل يـمـيـنـهـا نـحـو أعـلى يـسـارهـا. وهـو يـتـأرجـح هـنـا بـيـن مـا تـشـبّـع بـه مـن قـواعـد فـنّ أكـاديـمي تـعـلّـمـه مـنـذ صـبـاه، وبـيـن رغـبـتـه في تـخـطّـيـهـا والـتّـوصّـل إلى أسـلـوب يـنـاسـب شـخـصـيـتـه الـفـنّـيـة ويـتـيـح لـه الـتّـعـبـيـر عـنـهـا بـحـرّيـة. 

وأشـار بـعـض مـؤرخي الـفـنّ إلى أنّ بـيـكـاسـو كـان شـديـد الإعـجـاب بـالـلـوحـة الّـتي رسـمـهـا الـفـنّـان الـفـرنـسي أنـغـر J.-A.-D. Ingres عـام 1862، عـنـدمـا كـان في الـثّـانـيـة والـثّـمـانـيـن مـن عـمـره، وأسـمـاهـا : "الـحـمّـام الـتّـركي"، والّـتي رآهـا بـيـكـاسـو في صـالـون الـخـريـف الـفـنّي في بـاريـس في الـعـام الـسّـابـق، 1905، وتـأثّـر بـهـا تـأثّـراً شـديـداً :

 


 مـع أنّ رسـم بـيـكـاسـو يـفـتـقـر إلى بـذخ الأشـكـال والألـوان الّـتي تـطـفـح بـهـا لـوحـة الـفـنّـان أنـغـر.

ونـلاحـظ خـاصّـة الـعـاريـة الـواقـفـة عـلى يـسـار الـلـوحـة تـرقـص وبـجـانـبـهـا عـبـدة سـوداء تـضـرب لـهـا عـلى دفّ زنـجـاري :

فـقـد أدخـلـهـا بـيـكـاسـو في لـوحـتـه الـحـريـم :

  

كـمـا أنّ مـوضـوع الـنّـسـاء الـمـسـتـحـمّـات الـمـتـزيـنـات بـدأ عـنـد بـيـكـاسـو عـام 1904، بـعـد أن شـاهـد تـخـطـيـطـات الـفـنّـان الـفـرنـسي إدغـار دُغـا  Edgar DEGAS  ولـوحـاتـه بـالـبـاسـتـل لـلـنّـسـاء الـمـسـتـحـمّـات، وخـاصّـة في الـمـواخـيـر. ويـبـدو أنّـه كـان قـد تـأثّـر أيـضـاً بـالـرّسـوم الـجـداريـة الـرّومـانـيـة لـمـديـنـة بـومـبي  Pompeii، في جـنـوب إيـطـالـيـا، والّـتي أحـرقـهـا رمـاد بـركـان فـيـزوف  Vesuvius وغـطّـاهـا عـام 79 قـبـل الـمـيـلاد. وكـانـت الألـوان الـحـارّة تـلـتـمـع في رسـومـهـا الـجـداريـة.

ويـبـدأ بـيـكـاسـو بـهـذه الـلـوحـة أسـلـوب نـمّـاه  في الـعـام الـتّـالي، 1907 عـنـدمـا رسـم "دمـوازيـلات أفـنـيـون".

 

"آنـسـات أفـنـيـون" :

رسـم بـيـكـاسـو "آنـسـات أفـنـيـون Les Demoiselles d’Avignon"عـام 1907. وهي لـوحـة زيـتـيـة واسـعـة الـمـقـايـيـس (244×234 سـم.). وهي الّـتي تـعـوّدتُ أن أسـمـيـهـا "دمـوازيـلات أفـنـيـون". ودخـلـت الـلـوحـة مـنـذ عـام 1939 في مـقـتـنـيـات مـتـحـف الـفـنّ الـحـديـث (مـومـا) Museum of Modern Art (MOMA)  في مـديـنـة نـيـويـورك.

والّـذيـن قـرأوا عـنـوان الـلـوحـة تـصـوّروا أنّـهـا تـمـثّـل آنـسـات بـريـئـات، عـفـيـفـات، لـم يـتـزوّجـن بـعـد، أصـلـهـنّ مـن مـديـنـة أفـنـيـون Avignon في جـنـوب فـرنـسـا، والـمـشـهـورة الآن بـمـهـرجـان مـسـرحـهـا الـسّـنـوي. وأفـنـيـون هـذه كـانـت مـديـنـة الـبـابـوات الـفـرنـسـيـيـن في الـقـرن الـرّابـع عـشـر، وتـكـاد أن تـكـون مـقـدّسـة في الـمـخـيّـلـة الـفـرنـسـيـة الـتّـقـلـيـديـة، ومـحـتـرمـة، مـوقّـرة تـاريـخـيـاً. ولـهـذا أثـار عـنـوان الـلـوحـة اسـتـنـكـار أغـلـبـيـة الـنّـاس قـبـل أن يـعـرفـوا أنّ في هـذا الـعـنـوان الـكـثـيـر مـن الإسـتـفـزاز والـمـزاح الـثّـقـيـل، فـالـلـوحـة تـصّـور عـاهـرات في حـانـة ــ مـاخـور في شـارع في مـديـنـة بـرشـلـونـة، جـنـوب إسـبـانـيـا، اسـمـه أفـنـيـون Carrer d’Avinyo’

 

  

تـمـثّـل الـلـوحـة خـمـس نـسـاء عـاريـات جـزئـيـاً يـمـلأن مـشـهـداً كـمـا لـو كـان خـشـبـة مـسـرح تـنـزل مـن أعـلاه سـتـارة. وقـد وضـع الـفـنّـان في وسـط أسـفـل مـقـدمـة الـلـوحـة مـثـلـثـاً وضـع عـلـيـه قـطـعـة بـطـيـخ وعـنـقـود عـنـب وتـفّـاحـة وكـمـثـرى. وقـد ظـهـر هـذا الـنّـوع مـن الـتّـفـاصـيـل الّـتي تـوضـع في مـقـدمـة الـلـوحـة مـنـذ بـدايـة عـصـر الـنّـهـضـة الإيـطـالـيـة في الـقـرن الـخـامـس عـشـر. والـهـدف مـنـهـا كـان دفـع الـلـوحـة وإبـعـادهـا عـن سـطـح الـقـمـاش لإضـفـاء عـمـق عـلـيـهـا.

ويـسـتـعـمـلـه بـيـكـاسـو هـنـا كـتـلـمـيـح إلى تـقـنـيـة تـقـلـيـديـة لا وظـيـفـة لـهـا عـنـده، كـمـا لـو كـان يـمـازح الـرّائي الـمـتـعـود عـلى هـذه الـتّـكـويـنـات. ويـكـمـل بـيـكـاسـو هـنـا مـا كـان قـد بـدأه في الـعـام الـسّـابـق مـن تـخـطّـيـه لـقـواعـد الـفـنّ الاكـاديـمي.

وأذكّـر الـقـارئ الـعـزيـز هـنـا أنّ هـمّ الـفـنّـانـيـن الأوربـيـيـن الـشّـاغـل، ومـنـذ الـقـرن الـرّابـع عـشـر، كـان تـصـويـر عـالـم ثـلاثي الأبـعـاد عـلى سـطـوح ثـنـائـيـة الأبـعـاد (جـدران أو خـشـب أو قـمـاش)، أي خـلـق بُـعـد عـمـيـق لـيُـخـيّـل لـلـرّائي أنّ الـفـنّـان أدخـل لـه الـعـالـم الـحـقـيـقي بـأبـعـاده الـثّـلاثـة (الـعـرض والإرتـفـاع والـعـمـق) في لـوحـة مـسـطّـحـة لـيـس لـهـا إلّا بُـعـديـن (الـعـرض والإرتـفـاع).

وأهـمّ مـا أتى لـنـا بـه الـفـنّ الـحـديـث، قـبـل الـتّـوصـل إلى الـتّـجـريـد، كـان تـرك نـسـخ الـعـالـم الـحـقـيـقي كـمـا هـو، أي مـحـاولـة إدخـال عـالـم ثـلاثي الأبـعـاد في لـوحـة مـسـطّـحـة، وخـلـق عـالـم فـنّي مـسـتـقـلّ بـذاتـه، يـنـبـع مـن داخـل الإنـسـان لا مـن تـقـلـيـد مـظـاهـر الأشـيـاء.

وقـد تـوصّـل بـيـكـاسـو هـنـا، ولأوّل مـرّة، إلى عـرض رؤيـتـه الـدّاخـلـيـة لـلـعـالـم  بـتـقـنـيـات جـديـدة لا عـلاقـة لـهـا بـمـا كـان قـد درسـه وتـعـلّـمـه مـنـذ مـطـلـع شـبـابـه. وقـد تـخـطّى في نـفـس الـوقـت كـلّ مـا جـاءت بـه الـمـدارس الـفـنّـيـة الـحـديـثـة قـبـلـه، مـن تـجـزيء "الإنـطـبـاعـيـيـن" لـضـربـات الـفـرشـاة لـيـنـبـثـق الـضـوء مـن داخـل الألـوان بـدلاً مـن أن يـضـاف إلـيـهـا، ثـمّ تـحـويـل "الـنّـيـو إنـطـبـاعـيـيـن" لـهـا إلى نـقـاط تـتـجـاور وتـمـتـزج في مـقـلـة عـيـن الـرائي، وتـزداد امـتـزاجـاً كـلّـمـا ابـتـعـد عـنـهـا، وإلى اسـتـعـمـال "الـوحـشـيـيـن" لـلألـوان الـصّـافـيـة الـزّاهـيـة.

وتـحـتـل الـنـسّـاء الـخـمـس الـلـوحـة بـكـامـلـهـا، وزّعـهـنّ الـفـنّـان تـوزيـعـاً تـشـكـيـلـيـاً لـتـكـويـن الـلـوحـة جـمـالـيـاً، بـعـيـداً عـن كـل واقـعـيـة. واسـتـعـمـل لـذلـك، مـا عـد الأبـيـض والأسـود ومـا بـيـنـهـمـا مـن رصـاصي ورمـادي، مـجـمـوعـتـيـن مـن الألـوان، الأولى مـنـهـمـا، وهي الـطّـاغـيـة عـلى الـلـوحـة ألـوان حـارّة تـبـدأ بـالـوردي الـفـاتـح والـغـامـق والـمـصـفـرّ والـسّـلـومـوني والـبـرتـقـالي والـبـنّي والـقـهـوائي الـغـامـق، والـثّـانـيـة تـدرّجـات مـن الأزرق الـكـوبـالـتي الـصّـافي والـمـخـلـوط بـالـرّصـاصي أو بـالـرّمـادي أو بـالأبـيـض.

وإذا مـا قـرأنـا الـلـوحـة مـن الـيـسـار إلى الـيـمـيـن، فـهي تـبـدأ بـالـواقـفـة جـانـبـيـاً، والّـتي تـخـرج مـن ثـوبـهـا الـوردّي الـشّـفـاف سـاقـهـا الـيـمـنى وجـزءاً مـن بـطـنـهـا وصـدرهـا الـمـرسـوم بـخـطـوط هـنـدسـيـة حـادّة الـتّـقـاطـع. وثـبّـت الـفـنّـان عـلى جـسـدهـا رأسـاً يـبـدو مـنـحـوتـة غـامـقـة. ورفـعـت ذراعـهـا الأيـسـر الّـذي يـنـتـهي بـيـد مـفـتـوحـة الأصـابـع تـنـاسـب شـكـل الـرأس لا الـجـسـد :

 وبـجـانـبـهـا عـاريـتـان تـنـظـران إلى الـرّائي بـإغـراء، رسـم الـفـنّـان وجـهـيـهـمـا مـواجـهـةً وأنـفـيـهـمـا جـانـبـيـاً. وتـمـسـك الأولى بـقـمـيـصـهـا حـول فـخـذهـا الأيـسـر وتـلـتـفّ قـطـعـة قـمـاش حـول وسـط الـثّـانـيـة :

  

والـواحـدة مـنـهـمـا والـثّـانـيـة اسـتـيـحـاء لـعـاريـة الـفـنّـان أنـغـر في "الـحـمّـام الـتّـركي" : 

 


وأهـمّ مـا في "آنـسـات أفـنـيـون" ولا شـكّ، جـزؤهـا الأيـمـن الّـذي وضـع فـيـه بـيـكـاسـو عـاريـتـيـن، جـلـسـت الأولى تـديـر ظـهـرهـا لـلـرّائي ولـكـنّـهـا أدارت رأسـهـا الّـذي يـشـبـه قـنـاعـاً أفـريـقـيـاً نـحـوه، تـنـظـر إلـيـه بـعـيـنـيـن تـتـفـاوتـان في ارتـفـاع مـسـتـويـاهـمـا، ورسـم الـفـنّـان وجـهـهـا مـواجـهـةً وأنـفـهـا جـانـبـيـاً. ووقـفـت الـثّـانـيـة وراءهـا تـفـتـح الـسّـتـارة وتـنـظـر إلى الأخـريـات. وقـد امـتـزج وجـهـهـا (= الـقـنـاع الأفـريـقي) الـشّـديـد الـتّـظـلـيـل بـعـتـمـة مـا وراء الـسّـتـارة. ورسـم بـيـكـاسـو جـزءاً مـن جـسـدهـا بـخـطـوط هـنـدسـيـة :

  

وهـذه الـخـطـوط الـهـنـدسـيـة الـشّـديـدة الـتّـقـاطـع هي الّـتي جـعـلـت مـؤرّخي الـفـنّ يـعـتـبـرون "آنـسـات أفـنـيـون" كـأوّل لـوحـة رسـمـت بـالأسـلـوب الـتّـكـعـيـبي في تـاريـخ الـفـنّ الأوربي.

"آنـسـات أفـنـيـون" وبـدايـة الـحـركـة الـتّـكـعـيـبـيـة :

ومـع ذلـك لـم تـبـدأ الـحـركـة الـتّـكـعـيـبـيـة بـلـوحـة بـيـكـاسـو. وكـان بـيـكـاسـو عـنـدمـا رسـمـهـا عـام 1907  يـقـيـم في مـسـكـن الـفـنّـانـيـن الـمـسـمى بـالـ "بـاتـو لافـوار  Le Bateau-Lavoir" في حيّ مـونـمـارتـر، في شـمـال بـاريـس. وكـان لـه مـرسـم فـيـه. ولـم يـتـوقّـف أمـام الـلـوحـة كـثـيـر مـن الـزوّار، ولـم تـثـر اهـتـمـامـهـم.

وبـدايـة الـحـركـة الـتّـكـعـيـبـيـة الـحـقـيـقـيـة كـانـت عـام 1908، عـنـدمـا أرسـل الـفـنّـان الـفـرنـسي جـورج بـراك Georges Braque إلى "صـالـون الـخـريـف" في بـاريـس سـتّ لـوحـات كـان قـد رسـمـهـا في قـريـة الإسـتـاك L’Estaque في جـنـوب فـرنـسـا. وقـد رفـض "صـالـون الـخـريـف" أغـلـبـهـا، مـمـا أغـضـب جـورج بـراك، فـسـحـب الـلـوحـات وقـاطـع الـصّـالـون.

وعـرضـهـا بـعـد عـدّة أشـهـر في أحـد غـالـيـريـات الـفـنّ في بـاريـس. وقـد كـتـب أحـد نـقّـاد الـفـنّ  أنّ جـورج بـراك حـوّل فـيـهـا الأشـكـال إلى مـكـعـبـات صـغـيـرة :


 

ومـنـهـا عـرفـت كـلّ الـلـوحـات الّـتي تـبـعـتـهـا بـ "الـتّـكـعـيـبـيـة".

وتـجـاوزت شـهـرة بـابـلـو بـيـكـاسـو بـعـد ذلـك شـهـرة جـورج بـراك، مـمـا دفـعـة لـلإدّعـاء بـتـأسـيـس الـحـركـة الـتّـكـعـيـبـيـة. وتـبـعـه كـثـيـر مـن نـقّـاد الـفـنّ في ذلـك.


 

©حـقـوق الـنّـشـر مـحـفـوظـة لـلـدّكـتـور صـبـاح كـامـل الـنّـاصـري 

يـرجى طـلـب الإذن مـن الـكـاتـب قـبـل إعـادة نـشـر هـذا الـمـقـال.

 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

إسـتـثـمـار عـرق الـسّـوس في الـعـراق في نـهـايـة الـقـرن الـتّـاسـع عـشـر وبـدايـة الـقـرن الـعـشـريـن

مـهـنـد الـنّـاصـري في حـدائـق كـلـود مـونـيـه